فصل: ذكر قتل قلج أرسلان وملك جاولي الموصل

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **


  ذكر قتل فخر الملك بن نظام الملك

في هذه السنة قتل فخر الملك أبو المظفر علي بن نظام الملك يوم عاشوراء وكان أكبر أولاده وقد ذكرنا سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وزارته للسلطان بركيارق فلما فارق وزارته قصد نيسابور وأقام عند الملك سنجر بن ملكشاه ووزر له وأصبح يوم عاشوراء صائمًا وقال لأصحابه‏:‏ رأيت الليلة في المنام الحسين بن علي عليه السلام وهو يقول‏:‏ عجل إلينا وليكن إفطارك عندنا وقد اشتغل فكري به ولا محيد عن قضاء الله وقدره‏!‏ وقالوا‏:‏ يحميك الله والصواب أن لا تخرج اليوم والليلة من دارك فأقام يومه يصلي ويقرأ القرآن وتصدق بشيء كثير‏.‏

فلما كان وقت العصر خرج من الدار التي كان بها يريد دار النساء فسمع صياح متظلم شديد الحرقة وهو يقول‏:‏ ذهب المسلمون فلم يبق من يكشف مظلمة ولا يأخذ بيد ملهوف‏!‏ فأحضره عنده رحمة له فحضر فقال‏:‏ ما حالك فدفع إليه رقعة فبينما فخر الملك يتأملها إذ ضربه بسكين فقضى عليه فمات فحمل الباطني إلى سنجر فقرره فأقر على جماعة من أصحاب السلطان كذبًا وقال‏:‏ إنهم وضعوني على قتله وأراد أن يقتل بيده وسعايته فقتل من ذكر وكان مكذوبًا عليهم ثم قتل الباطني بعدهم وكان عمر فخر الملك ستًا وستين سنة‏.‏

  ذكر ملك صدقة بن مزيد تكريت

في هذه السنة في صفر تسلم الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد قلعة تكريت وقد ذكرنا فيما تقدم أنها كانت لبني مقن العقيليين وكانت إلى آخر سنة سبع وعشرين وأربعمائة بيد رافع بن الحسين بن مقن فمات ووليها ابن أخيه أبو منعة خميس بن تغلب بن حماد ووجد بها خمسمائة ألف دينار سوى المصاغ وتوفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ووليها ولده أبو غشام‏.‏

فلما كان سنة أربع وأربعين وثب عليه عيسى فحبسه وملك القلعة والأموال فلما اجتاز به طغرلبك سنة ثمان وأربعين صالحه على بعض المال فرحل عنه‏.‏

وخافت زوجته أميرة بعد موته أن يعود غشام فيملك القلعة فقتلته وكان قد بقي في الحبس أربع سنين واستنابت في القلعة أبا الغنائم بن المحلبان فسلمها إلى أصحاب السلطان طغرلبك فسارت إلى الموصل فقتلها ابن أبي غشام بأبيه وأخذ شرف الدولة مسلم بن قريش مالها ورد طغرلبك أمر القلعة إلى إنسان يعرف بأبي العباس الرازي فمات بها بعد ستة أشهر فملكها المهرباط وهو أبو جعفر محمد بن أحمد نب خشنام من بلد الثغر فأقام بها إحدى وعشرين سنة ومات ووليها ابنه سنتين وأخذتها منه تركان خاتون ووليها لها كوهرائين‏.‏

ثم ملكها بعد وفاة ملكشاه قسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب فلما قتل صارت للأمير كمشتكين الجاندار فجعل فيها رجلًا يعرف بأبي المصارع ثم عادت إلى كوهرائين إقطاعًا ثم أخذها منه مجد الملك البلاساني فولى عليها كيقباذ بن هزارسب الديلمي فأقام بها اثنتي عشرة سنة فظلم أهلها وأساء السيرة فلما اجتاز به سقمان بن أرتق سنة ست وتسعين ونهبها كان كيقباذ ينهبها ليلًا وسقمان ينهبها نهارًا‏.‏

فلما استقر السلطان محمد بعد موت أخيه بركيارق أقطعها للأمير آقسنقر البرسقي شحنة بغداد فسار إليها وحصرها مدة تزيد على سبعة أشهر حتى ضاق على كيقباذ الأمر فراسل صدقة بن مزيد ليسلمها إليه فسار إليها في صفر هذه السنة وتسلمها منه وانحدر البرسقي ولم يملكها‏.‏

ومات كيقباذ بعد نزوله من القلعة بثمانية أيام وكان عمره ستين سنة واستناب صدقة بها ورام بن أبي فراس بن ورام وكان كيقباذ ينسب إلى الباطنية وكان موته من سعادة صدقة فإنه لو أقام عنده لعرض صدقة لظنون الناس في اعتقاده ومذهبه‏.‏

  ذكر الحرب بين عبادة وخفاجة

في هذه السنة في ربيع الأول كانت حرب بين عبادة وخفاجة فظفرت عبادة وأخذت بثأرها من خفاجة‏.‏

وكان سبب ذلك أن سيف الدولة صدقة أرسل ولده بدران في جيش إلى طرف بلاده مما يلي البطيحة ليحميها من خفاجة لأنهم يؤذون أهل تلك النواحي فقربوا منه وتهددوا أهل البلاد فكتب إلى أبيه يشكو منهم ويعرفه حالهم فأحضر عبادة وكانت خفاجة قد فعلت بهم العام الماضي ما

ذكرناه فلما حضروا عنده قال لهم ليتجهزوا مع عسكره ليأخذوا بثأرهم من خفاجة فساروا في مقدم عسكره فأدركوا حلة من خفاجة من بني كليب ليلًا وهم غارون لم يشعروا بهم فقالوا‏:‏ من أنتم فقالت عبادة‏:‏ نحن أصحاب لديون فعلموا أنهم عبادة فقاتلوهم وصبرت خفاجة فبينما هم في القتال إذ سمع طبل الجيش فانهزموا وقتلت منهم عبادة جماعة وكان فيهم عشرة من وجوههم وتركوا حرمهم فأمر صدقة بحراستهن وحمايتهن وأمر العسكر أن يؤثروا عبادة بما غنموه من أموال خفاجة خلفًا لهم عما أخذ منهم في العام الماضي‏.‏

وأصاب خفاجة من مفارقة بلادها ونهب أموالها وقتل رجالها أمر عظيم وانتزحت إلى نواحب البصرة وأقامت عبادة في بلاد خفاجة‏.‏

ولما انهزمت خفاجة وتفرقت ونهبت أموالها جاءت امرأة منهم إلى الأمير صدقة فقالت له‏:‏ إنك سبيتنا وسلبتنا قوتنا وغربتنا وأضعت حرمتنا قابلك الله في نفسك وجعل صورة أهلك كصورتنا فكظم الغيظ واحتمل لها ذلك وأعطاها أربعين جملًا ولم يمض غير قليل حتى قابل الله صدقة في نفسه وأولاده فإن دعاء الملهوف عند الله بمكان‏.‏

  ذكر مسير جاولي سقاوو إلى الموصل وأسر صاحبها جكرمش

في هذه السنة في المحرم أقطع السلطان محمد جاولي سقاوو الموصل والأعمال التي بيد جكرمش وكان جاولي قبل هذا قد استولى على البلاد التي بين خوزستان وفارس وأقام بها سنين وعمر قلاعها وحصنها وأساء السيرة في أهلها وقطع أيديهم وجدع أنوفهم وسمل أعينهم‏.‏

فلما تمكن السلطان محمد من السلطنة خافه جاولي وأرسل السلطان إليه الأمير مودود بن التونتكين فتحصن منه جاولي وحصره مودود ثمانية أشهر فأرسل جاولي إلى السلطان‏:‏ إنني لا أنزل إلى مودود فإن أرسلت غيره نزلت‏.‏

فأرسل إليه خاتمه مع أمير آخر فنزل جاولي وحضر الخدمة بأصبهان فرأى من السلطان ما يحب وأمره السلطان بالمسير إلى الفرنج ليأخذ البلاد منهم وأقطعه الموصل وديار بكر والجزيرة كلها‏.‏

وكان جكرمش لما عاد من عند السلطان إلى بلاده كما ذكرناه وعد من نفسه الخدمة وحمل المال فلما استقر ببلاده لم يف بما قال وتثاقل في الخدمة وحمل المال فأقطع بلاده لجاولي فجاء إلى بغداد وأقام بها إلى أول ربيع الأول وسار إلى الموصل وجعل طريقه على البوازيج فملكها ونهبها أربعة أيام بعد أن أمن أهلها وحلف لهم أنه يحميهم فلما ملكها سار إلى إربل‏.‏

وأما جكرمش فإنه لما بلغه مسيره إلى بلاده كتب في جمع العساكر فأتاه كتاب أبي الهيجاء موسك الكردي الهذباني صاحب إربل يذكر استيلاء جاولي على البوازيج ويقول له‏:‏ إن لم تعجل المجيء لنجتمع عليه ونمنعه وإلا اضطررت إلى موافقته والمصير معه‏.‏

فبادر جكرمش وعبر إلى شرقي دجلة وسار في عسكر الموصل قبل اجتماع عساكره وأرسل إليه أبو الهيجاء عسكره مع أولاده فاجتمعوا بقرية باكلبا من أعمال إربل‏.‏

ووافاهم جاولي وهو في ألف فارس وكان جكرمش في ألفي فارس ولا يشك أنه يأخذ جاولي باليد فلما اصطفوا للحرب حمل جاولي من القلب على قلب جكرمش فانهزم من فيه وبقي جكرمش وحده لا يقدر على الهزيمة لفالج كان به فهو لا يقدر أن يركب وإنما يحمل في محفة فلما انهزم أصحابه قاتل عنه ركابي أسود قتالًا عظيمًا فقتل وقاتل معه واحد من أولاد الملك قاورت بك بن داود اسمه أحمد فقاتل بين يديه فطعن فجرح وانهزم فمات بالموصل ولم يقدر أصحاب جاولي على الوصول إلى جكرمش حتى قتل الركابي الأسود فحينئذ أخذوه أسيرًا وأحضروه عند جاولي فأمر بحفظه وحراسته‏.‏

وكانت عساكر جكرمش التي استدعاها قد وصلت إلى الموصل بعد مسيره بيومين فساروا جرائد ليدركوا الحرب فلقيهم المنهزمون ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏

  ذكر حصر جاولي سقاوو الموصل وموت جكرمش

لما انهزم العسكر وأسر جكرمش وصل الخبر إلى الموصل فأقعدوا في الأمر زنكي بن جكرمش وهو صبي عمره إحدى عشرة سنة وخطبوا له وأحضروا أعيان البلد والتمسوا منهم المساعدة فأجابوا إلى ذلك‏.‏

وكان مستحفظ القلعة مملوكًا لجكرمش اسمه غزغلي فقام في ذلك المقام المرضي وفرق الأموال التي جمعها جكرمش والخيول وغير ذلك على الجند وكاتب سيف الدولة صدقة وقلج أرسلان والبرسقي شحنة بغداد بالمبادرة إليهم ومنع جاولي عنهم ووعدوا كلًا منهم أن يسلموا البلد إليه‏.‏

فأما صدقة فلم يجبهم إلى ذلك ورأى طاعة السلطان وأما البرسقي وقلج ثم إن جاولي حصر الموصل ومعه كرماوي بن خراسان التركماني وغيره من الأمراء وكثر جمعه وأمر أن يحمل جكرمش كل يوم على بغل وينادى أصحابه بالموصل ليسلموا البلد ويخلصوا صاحبهم مما هو فيه ويأمرهم هو بذلك فلا يسمعون منه وكان يسجنه في جب ويوكل به من يحفظه لئلا يسرق فأخرج في بعض الأيام ميتًا وعمره نحو ستين سنة وكان شأنه قد علا ومنزلته قد عظمت وكان قد شيد سور الموصل وقواه وبنى عليه فصيلًا وحفر خندقها وحصنها غاية ما يقدر عليه‏.‏

وكان مع جكرمش رجل من أعيان الموصل يقال له أبو طالب بن كسيرات وبنو كسيرات إلى الآن بالموصل من أعيان أهلها وكان أبو طالب قد تقدم عند جكرمش وارتفعت منزلته واستولى على أموره وحضر معه الحرب فلما أسر جكرمش هرب أبو طالب إلى إربل وكان أولاد أبي الهيجاء صاحب إربل قد حضروا الحرب مع جكرمش وأسرهم جاولي فأرسل إلى أبي الهيجاء يطلب ابن كسيرات فأطلقه وسيره إليه فأطلق جاولي ابن أبي الهيجاء فلما حضر ابن كسيرات عند جاولي ضمن له فتح الموصل وبلاد جكرمش وتحصيل الأموال فاعتقله اعتقالًا جميلًا‏.‏

وكان قاضي الموصل أبو القاسم بن ودعان عدوًا لأبي طالب فأرسل إلى جاولي يقول له‏:‏ إن قتلت أبا طالب سلمت الموصل إليك‏.‏

فقتله وأرسل رأسه إليه فأظهر الشماتة به وأخذ كثيرًا من أمواله وودائعه فثار به الأتراك غضبًا لأبي طالب ولتفرده بما أخذ من أمواله فقتلوه وكان بينهما شهر واحد وقد رأينا كثيرًا وسمعنا ما لا نحصيه من قرب وفاة أحد المتعاديين بعد صاحبه‏.‏

  ذكر الحرب بين ملك القسطنطينية والفرنج

في هذه السنة كانت وحشة مستحكمة بين ملك الروم صاحب القسطنطينية وبين بيمند الفرنجي فسار بييمند إلى بلد ملك الروم ونهبه وعزم على قصده فأرسل ملك الروم إلى الملك قلج أرسلان بن سليمان صاحب قونية وأقصرا وغيرهما من تلك البلاد يستنجده فأمده بجمع من عسكره فقوي بهم وتوجه إلى بيمند فالتقوا وتصافوا واقتتلوا وصبر الفرنج بشجاعتهم وصبر الروم ومن معهم لكثرتهم ودامت الحرب ثم أجلت الوقعة عن هزيمة الفرنج وأتى القتل على أكثرهم وأسر كثير منهم والذين سلموا عادوا إلى بلادهم بالشام وعاد عسكر قلج أرسلان إلى بلادهم عازمين على المسير إلى صاحبهم بديار الجزيرة فأتاهم خبر قتله على ما نذكره إن شاء الله تعالى فتركوا الحركة وأقاموا‏.‏

قد ذكرنا أن أصحاب جكرمش كتبوا إلى الأمير صدقة وقسيم الدولة البرسقي والملك قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش السلجوقي صاحب بلاد الروم يستدعون كلًا منهم إليهم ليسلموا البلد إليه‏.‏

فأما صدقة فامتنع ورأى طاعة السلطان وأما قلج أرسلان فإنه سار في عساكره فلما سمع جاولي سقاوو بوصوله إلى نصيبين رحل عن الموصل وأما البرسقي فإنه كان شحنة بغداد فسار منها إلى الموصل فوصلها بعد رحيل جاولي عنها فنزل بالجانب الشرقي فلم يلتفت أحد إليه ولا أرسلوا إليه كلمة واحدة فعاد في باقي يومه‏.‏

ثم إن قلج أرسلان لما وصل إلى نصيبين أقام بها حتى كثر جمعه فلما سمع جاولي بقربه رحل من الموصل إلى سنجار وأودع رحله بها واتصل به الأمير إيلغازي بن أرتق وجماعة من عسكر جكرمش فصار معه أربعة آلاف فارس‏.‏

فأتاه كتاب الملك رضوان يستدعيه إلى الشام ويقول له‏:‏ إن الفرنج قد عجز من بالشام عن منعهم فسار إلى الرحبة‏.‏

وأرسل أهل الموصل وعسكر جكرمش إلى قلج أرسلان وهو بنصيبين فاستحلفوه لهم فحلف واستحلفهم على الطاعة له والمناصحة وسار معهم إلى الموصل فملكها في الخامس والعشرين من رجب ونزل بالمعرقة وخرج إليه ولد جكرمش وأصحابه فخلع عليهم وجلس على التخت وأسقط السلطان محمدًا وخطب لنفسه بعد الخليفة وأحسن إلى العسكر وأخذ القلعة من غزغلي مملوك جكرمش وجعل له فيها دزدارًا ورفع الرسوم المحدثة في الظلم وعدل في الناس وتألفهم وقال‏:‏ من سعى إلي بأحد قتلته فلم يسع أحد بأحد وأقر القاضي أبا محمد عبد الله نب القاسم بن الشهرزوري على القضاء بالموصل وجعل الرئاسة لأبي البركات محمد بن محمد بن خميس وهو والد شيخنا أبي الربيع سليمان‏.‏

وكان في جملة قلج أرسلان الأمير إبراهيم بن ينال التركماني صاحب آمد ومحمد بن جبق التركماني صاحب حصن زياد وهو خرتبرت‏.‏

فأما إبراهيم بن ينال فكان سبب ملكه لمدينة آمد أن تاج الدولة تتش حين ملك ديار بكر سلمها إليه فبقيت بيده وأما محمد بن جبق فكان سبب ملكه لحصن زياد أن هذا الحصن كان بيد الفلادروس الرومي ترجمان ملك الروم وكانت الرها وأنطاكية من أعماله فلما ملك سليمان بن قتلمش والد قلج أرسلان هذا أنطاكية وملك فخر الدولة بن جهير ديار بكر ضعف الفلادروس عن إقامة ما يحتاج إليه حصن زياد من الميرة والإقامة فأخذه جبق وأسلم الفلادروس على يد السلطان ملكشاه وأمره على الرها فلم يزل عليها حتى مات وأخذها الأمير بزان بعده‏.‏

وكان بالقرب من حصن زياد حصن آخر بيد إنسان من الروم اسمه افرنجي وكان يقطع الطريق ويكثر قتل المسلمين فأرسل إليه جبق هدية وخطب إليه مودته وأن يعين كل واحد منهما صاحبه فأجابه إلى ذلك فكان جبق يعين افرنجي على قطع الطريق وغيره وكذلك افرنجي يعين جبق فلما وثق كل واحد بصاحبه أرسل إليه جبق‏:‏ إني أريد قصد بعض الأماكن وطلب أن يرسل إليه أصحابه فأرسلهم إليه فلما ساروا معه في الطريق تقدم بكتفهم وحملهم إلى قلعة افرنجي وقال لأهليهم‏:‏ والله لئن لم تسلموا إلي افرنجي لأضربن أعناقهم ولآخذن الحصن عنوة ولأقتلنكم على دم واحد‏.‏

ففتحوا له الحصن وسلموا إليه افرنجي فسلخه وأخذ أمواله وسلاحه وكان عظيمًا ومات جبق فولي بعده ابنه محمد‏.‏

  ذكر قتل قلج أرسلان وملك جاولي الموصل

قد ذكرنا أن قلج أرسلان لما وصل إلى نصيبين سار جاولي عن الموصل إلى سنجار ثم إلى الرحبة فوصلها في رجب وحصرها إلى الرابع والعشرين من شهر رمضان وكان صاحبها حينئذ يعرف بمحمد بن السباق وهو من بني شيبان رتبه بها الملك دقاق لما فتحها وأخذ ولده رهينة وحمله معه إلى دمشق فلما توفي أرسل هذا الشيباني قومًا سرقوا ولده وحملوه

إليه فلما وصل إليه خلع الطاعة للدمشقيين وخطب في بعض الأوقات لقلج أرسلان‏.‏

فلما وصل إليها جاولي وحصرها أرسل إلى الملك رضوان يعرفه أنه على الاجتماع به ومساعدته على من يحاربه ويشرط عليه أنه إذا تسلم البلاد سار معه ليكشف الفرنج عن بلاده فلما استقرت القاعدة بينهما حضر عنده رضوان فاشتد الحصار على أهل البلد وضاقت عليهم الأمور‏.‏واتفق جماعة كانوا بأحد الأبراج وأرسلوا إلى جاولي واستحلفوه على حفظهم وحراستهم وأمروه أن يقصد البرج الذي هم فيه عند انتصاف الليل ففعل ذلك فرفع من في البرج أصحابه إليهم في الجبال فضربوا بوقاتهم وطبولهم فخذل من في البلد ودخله أصحاب جاولي في اليوم الرابع والعشرين من شهر رمضان ونهبوه إلى الظهر ثم أمر برفع النهب ونزل إليه محمد الشيباني صاحب البلد وأطاعه وصار معه‏.‏

ثم إن قلج أرسلان لما فرغ من أمر الموصل سار عنها إلى جاولي سقاوو ليحاربه وجعل ابنه ملكشاه في دار الإمارة وعمره إحدى عشرة سنة ومعه أمير يدبره وجماعة من العسكر وكانت عدة عسكره أربعة آلاف فارس بالعدة الكاملة والخيل الجيدة‏.‏

وسمع العسكر بقوة جاولي فاختلفوا وكان أول من خالف عليه إبراهيم بن ينال صاحب آمد فإنه فارق خيامه وأثقاله وعاد من الخابور إلى بلده وكذلك غيره وعمل قلج أرسلان على المطاولة لما بلغه من قوة جاولي وكثرة جموعه وأرسل إلى بلاده يطلب عساكره لأنها كانت عند ملك الروم نجدة له على قتال الفرنج كما ذكرناه فلما وصل إلى الخابور بلغت عدته خمسة آلاف‏.‏

وكان مع جاولي أربعة آلاف من جملتهم الملك رضوان وجماعة من عسكره إلا أن شجعانه أكثر واغتنم جاولي قلة عسكر قلج أرسلان فقاتله قبل وصول عساكره إليه فالتقوا في العشرين من ذي القعدة فحمل قلج أرسلان على القوم بنفسه حتى خالطهم فضرب يد صاحب العلم فأبانها ووصل إلى جاولي بنفسه فضربه بالسيف فقطع الكزاغند ولم يصل إلى بدنه وحمل أصحاب جاولي على أصحابه فهزموهم واستباحوا ثقلهم وسوادهم فلما رأى قلج أرسلان انهزام عسكره علم أنه إن أسر فعل به فعل من يترك للصلح موضعًا لا سيما وقد نازع السلطان في بلاده واسم السلطنة فألقى نفسه في الخابور وحمى نفسه من أصحاب جاولي بالنشاب فانحدر به الفرس إلى ماء عميق فغرق وظهر بعد أيام فدفن بالشمسانية وهي من قرى الخابور‏.‏

وسار جاولي إلى الموصل ولما وصل إليها فتح أهلها له بابها ولم يتمكن من بها من أصحاب قلج أرسلان من منعهم ونزل بظاهر البلد وأخذ كل واحد من أصحاب جكرمش الذين حضروا الوقعة مع قلج أرسلان إلى جهة‏.‏

فلما ملك جاولي الموصل أعاد خطبة السلطان محمد وصادر جماعة من بها من أصحاب جكرمش وسار إلى جزيرة ابن عمر وبها حبشي بن جكرمش ومعه أمير من غلمان أبيه اسمه غزغلي فحصره مدة ثم إنهم صالحوه وحملوا إليه ستة آلاف دينار وغيرها من الدواب والثياب ورحل عنهم إلى الموصل وأرسل ملكشاه بن قلج أرسلان إلى السلطان محمد‏.‏

  ذكر أحوال الباطنية بأصبهان وقتل ابن عطاش

في هذه السنة ملك السلطان محمد القلعة التي كان الباطنية ملكوها بالقرب من أصبهان واسمها شاه دز وقتل صاحبها أحمد بن عبد الملك بن عطاش وولده وكانت هذه القلعة قد بناها ملكشاه واستولى عليها بعده أحمد بن عبد الملك بن عطاش‏.‏

وسبب ذلك أنه اتصل بدزدار كان لها فلما مات استولى أحمد عليها وكان الباطنية بأصبهان قد ألبسوه تاجًا وجمعوا له أموالًا وإنما فعلوا ذلك به لتقدم أبيه عبد الملك في مذهبهم فإنه كان أديبًا بليغًا حسن الخط سريع البديهة عفيفًا وابتلي بحب هذا المذهب وكان ابنه أحمد هذا جاهلًا لا يعرف شيئًا وقيل لابن الصباح صاحب قلعة ألموت‏:‏ لماذا تعظم ابن عطاش مع جهله قال‏:‏ لمكان أبيه لأنه أستاذي‏.‏

وصار لابن عطاش عدد كثير وبأس شديد واستفحل أمره بالقلعة فكان يرسل أصحابه لقطع الطريق وأخذ الأموال وقتل من قدروا على قتله فقتلوا خلقًا كثيرًا لا يمكن إحصاؤهم وجعلوا له على القرى السلطانية وأملاك الناس ضرائب يأخذونها ليكفوا عنها الأذى فتعذر بذلك انتفاع السلطان بقراه والناس بأملاكهم وتمشى لهم الأمر بالخلف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد‏.‏

فلما صفت السلطنة لمحمد ولم يبق له منازع لم يكن عنده أمر أهم من قصد الباطنية وحربهم والانتصاف للمسلمين من جورهم وعسفهم فرأى البداية بقلعة أصبهان التي بأيديهم لأن الأذى بها أكثر وهي متسلطة على سرير ملكه فخرج بنفسه فحاصرهم في سادس شعبان‏.‏

وكان قد عزم على الخروج أول رجب فساء ذلك من يتعصب لهم من العسكر فأرجفوا أن قلج أرسلان بن سليمان قد ورد بغداد وملكها وافتعلوا في ذلك مكاتبات ثم أظهروا أن خللًا قد تجدد بخراسان فتوقف السلطان لتحقيق الأمر فلما ظهر بطلانه عزم عزيمة مثله وقصد حربهم وصعد جبلًا يقابل القلعة من غربيها ونصب له التخت في أعلاه واجتمع له من أصبهان وسوادها لحربهم الأمم العظيمة للذحول التي يطالبونهم بها وأحاطوا بجبل القلعة ودوره أربعة فراسخ ورتب الأمراء لقتالهم فكان يقاتلهم كل يوم أمير فضاق الأمر بهم واشتد الحصار عليهم وتعذرت عندهم الأقوات‏.‏

فلما اشتد الأمر عليهم كتبوا فتوى فيها ما يقول السادة الفقهاء أئمة الدين في قوم يؤمنون بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر وإن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق وصدق وإنما يخالفون في الإمام‏:‏ هل يجوز للسلطان مهادنتهم وموادعتهم وأن يقبل طاعتهم ويحرسهم من كل أذى فأجاب أكثر الفقهاء بجواز ذلك وتوقف بعضهم فجمعوا للمناظرة ومعهم أبو الحسن علي بن عبد الرحمن السمنجاني وهو من شيوخ الشافعية فقال بمحضر من الناس يجب قتالهم ولا يجوز إقرارهم بمكانهم ولا ينفعهم التلفظ بالشهادتين فإنهم يقال لهم‏:‏ أخبرونا عن إمامكم إذا أباح لكم ما حظره الشرع أو حظر عليكم ما أباحه الشرع أتقبلون أمره فإنهم يقولون نعم وحينئذ تباح دماؤهم بالإجماع‏.‏

وطالت المناظرة في ذلك‏.‏

ثم إن الباطنية سألوا السلطان أن يرسل إليهم من يناظرهم وعينوا على أشخاص من العلماء منهم القاضي أبو العلاء صاعد بن يحيى شيخ الحنفية بأصبهان وقاضيها وغيره فصعدوا إليهم وناظروهم وعادوا كما صعدوا وإنما كان قصدهم التعلل والمطاولة فلج حينئذ السلطان في حصرهم فلما رأوا عين المحاقة أذعنوا إلى تسليم القلعة على أن يعطوا عوضًا عنها قلعة خالنجان وهي على سبعة فراسخ من أصبهان وقالوا‏:‏ إنا نخاف على دمائنا وأموالنا من العامة فلا بد من مكان نحتمي به منهم فأشير على السلطان بإجابتهم إلى ما طلبوا فسألوا أن يؤخرهم إلى النوروز ليرحلوا إلى خالنجان ويسلموا قلعتهم وشرطوا أن لا يسمع قول متنصح فيهم وإن قال أحد عنهم شيئًا سلمه إليهم وأن ما أتاه منهم رده إليهم فأجابهم إليه وطلبوا أن يحمل إليهم من الإقامة ما يكفيهم يومًا بيوم فأجيبوا إليه في كل هذا وقصدهم المطاولة انتظارًا لفتق أو حادث يتجدد‏.‏

ورتب لهم وزير السلطان سعد الملك ما يحمل إليهم كل يوم من الطعام والفاكهة وجميع ما يحتاجون إليه فجعلوا هم يرسلون ويبتاعون من الأطعمة ما يجمعونه ليمتنعوا في قلعتهم ثم إنهم وضعوا من أصحابهم من يقتل أميرًا كان يبالغ في قتالهم فوثبوا عليه وجرحوه وسلم منهم فحينئذ أمر السلطان بإخراب قلعة خالنجان وجدد الحصار عليهم فطلبوا أن ينزل بعضهم ويرسل السلطان معهم من يحميهم إلى أن يصلوا إلى قلعة الناظر بأرجان وهي لهم وينزل بعضهم ويرسل معهم من يوصلهم إلى طبس وأن يقيم البقية منهم في ضرس من القلعة إلى أن يصل إليهم من يخبرهم بوصول أصحابهم فينزلون حينئذ ويرسل معهم من يوصلهم إلى ابن الصباح بقلعة ألموت فأجيبوا إلى ذلك فنزل منهم إلى الناظر وإلى طبس وساروا وتسلم السلطان القلعة وخربها‏.‏

ثم إن الذين ساروا إلى قلعة الناظر وطبس منهم من أخبر ابن عطاش بوصولهم فلم يسلم السن الذي بقي بيده ورأى السلطان منه الغدر والعود عن الذي قرره فأمر بالزحف إليه فزحف الناس عامة ثاني ذي القعدة وكان قد قل عنده من يمنع ويقاتل فظهر منهم صبر عظيم وشجاعة زائدة وكان قد استأمن إلى السلطان إنسان من أعيانهم فقال لهم‏:‏ إني أدلكم على عورة لهم فأتى بهم إلى جانب لذلك السن لهم لا يرام فقال لهم‏:‏ اصعدوا من هاهنا فقيل إنهم قد ضبطوا هذا المكان وشحنوه بالرجال فقال‏:‏ إن الذي ترون أسلحة وكزاغندات قد جعلوها كهيئة الرجال لقلتهم عندهم‏.‏

وكان جميع من بقي ثمانين رجلًا فزحف الناس من هناك فصعدوا منه وملكوا الموضع وقتل أكثر الباطنية واختلط جماعة منهم مع من دخل فخرجوا معهم وأما ابن عطاش فإنه أخذ أسيرًا فترك أسبوعًا ثم إنه أمر به فشهر في جميع البلد وسلخ جلده فتجلد حتى مات وحشي جدله تبنًا وقتل ولده وحمل رأساهما إلى بغداد وألقت زوجته نفسها من رأس القلعة فهلكت وكان معها جواهر نفيسة لم يوجد مثلها فهلكت أيضًا وضاعت وكانت مدة

  ذكر الخلف بين سيف الدولة صدقة ومهذب الدولة صاحب البطيحة

في هذه السنة اختلف سيف الدولة صدقة بن مزيد ومهذب الدولة السعيد ابن أبي الجبر صاحب البطيحة وانضاف حماد بن أبي الجبر إلى صدقة وأظهر معاداة ابن عمه مهذب الدولة ثم اتفقوا‏.‏

وكان سبب ذلك أن صدقة لما أقطعه السلطان محمد مدينة واسط ضمنها منه مهذب الدولة واستناب في الأعمال أولاده وأصحابه فمدوا أيديهم في الأموال وفرطوا فيها وفرقوها فلما انقضت السنة طالبه صدقة بالمال وحبسه ثم سعى في خلاصه بدران بن صدقة وهو صهر مهذب الدولة فأخرجه من الحبس وأعاده إلى بلده البطيحة‏.‏

وضمن حماد بن أبي الجبر واسط فانحل على مهذب الدولة كثير من أمره فآل الأمر إلى الاختلاف بعد الاتفاق فإن المصطنع إسماعيل جد حماد والمختص محمدًا والد مهذب الدولة أخوان وهما ابنا أبي الجبر وكانت إليهما رئاسة أهلهما وجماعتهما فهلك المصطنع وقام ابنه أبو السيد المظفر والد حماد مقامه وهلك المختص محمد وقام ابنه مهذب الدولة مقامه وصارا يتنازعان ابن الهيثم صاحب البطيحة ويقاتلانه إلى أن أخذه مهذب الدولة أيام كوهرائين وسلمه إلى كوهرائين فحمله إلى أصبهان فهلك في طريقها‏.‏

فعظم أمر مهذب الدولة وصيره كوهرائين أمير البطيحة فصار ابن عمه وجماعة تحت حكمه‏.‏

وكان حماد شابًا فأكرمه مهذب الدولة وزوجه بنتًا له وزاد في إقطاعه فكثر ماله فصار يحسد مهذب الدولة ويضمر بغضه وربما ظهر في بعض الأوقات وكان مهذب الدولة يداريه بجهده فلما هلك كوهرائين انتقل حماد عن مهذب الدولة وأظهر ما في نفسه فاجتهد مهذب الدولة في إعادته إلى ما كان فلم يفعل فسكت عنه فجمع النفيس بن مهذب الدولة جمعًا وقصد حمادًا فهرب منه إلى سيف الدولة بالحلة فأعاده صدقة ومعه جماعة من الجند فحشد مهذب الدولة فأرسل حماد إلى صدقة يعرفه ذلك فأرسل إليه كثيرًا من الجند فقوي عزم مهذب الدولة على المحاربة لئلا يظن به العجز فأشار عليه أهله بترك الخروج من موضعه لحصانته فلم يفعل وسير سفنه وأصحابه في الأنهر فجعل حماد وأخوه له الكمناء واندفعوا من بين أيديهم فطمع أصحاب مهذب الدولة وتبعوهم فخرج عليهم الكمناء فلم يسلم منهم إلا من لم يحضر أجله فقتل منهم وأسر خلق كثير فقوي طمع حماد وأرسل إلى صدقة يستنجده فأرسل إليه مقدم جيشه سعيد بن حميد العمري وغيره من المقدمين وجمعوا السفن ليقاتلوا مهذب الدولة فرأوا أمرًا محكمًا فلم يمكنهم الدخول إليه‏.‏

وكان حماد بخيلًا ومهذب الدولة جوادًا فأرسل إلى سعيد بن حميد الإقامات الوافرة والصلات الكثيرة واستماله فمال إليه واجتمع به وتقرر الأمر على أن أرسل مهذب الدولة ابنه النفيس إلى صدقة فرضي عنه وأصلح بينهم وبين حماد ابن عمهم وعادوا إلى حال حسنة من الاتفاق وكان صلحهم في ذي الحجة سنة خمسمائة‏.‏